وكما وعدتكم نستكمل قصه حياة الفنان ابو تريكا
مصنع الطوب
الكثير من الزملاء يخجلون من الحديث عن ماضيهم الفقير، لكنني لا أري مشكلة في ذلك، لأنني أفتخر بفقري وأفتخر بالنعم التي أعطاني الله إياها لن أزعم أنني كنت نجماً من صغري لذلك لا أجد أي حرج في الاعتراف بأنني كنت أعمل في بداية مراهقتي بمصنع للطوب.
لم يكن العمل في مصنع الطوب أمراً إجبارياً علي أي واحد من أشقائي الذين سبقوني للعمل فيه، عندما التحقت به كان عمري بين الثانية عشرة والثالثة عشرة علي ما أذكر كان زملائي ينتظرون بفروغ الصبر فترة الإجازة الصيفية ليذهبوا إلي المصايف ويستمتعوا بإجازاتهم، بينما كنت أنا أذهب للعمل مع عمي عيد في مصنع الطوب.
لم يكن الأجر شهرياً ولا أسبوعياً، بل كنت أعمل باليومية، ولم يكن أجري وقتها يزيد علي جنيهين، ثم زاد بعد ذلك تدريجياً حسب طبيعة وحجم العمل الذي كنت أؤديه.
في المرحلة الأولي من عملي كانت مهمتي هي كنس أرض المصنع من الحصي المتبقي في الأرض وتنظيفها من الرمل والملونة الأسمنتية كانت هذه المرحلة هي أقل المراحل إجهاداً في مصنع الطوب لأنها كانت سهلة وتناسب سني الصغيرة.
أعطتني والدتي ملابس قديمة لكي أرتديها في العمل، وفي نهاية اليوم كنت أستبدل ملابسي وأترك طاقم العمل في المصنع، ولا أعود به إلا مرة واحدة في نهاية الأسبوع لكي يتم غسله وتنظيفه.
وفي بعض الأحيان كنت أضطر إلي إحضار وجبة للغداء في فترة الراحة بالمصنع، لأنني كنت أستيقظ لصلاة الفجر وأتناول إفطاري ثم أتوجه إلي العمل، وأعود بعد صلاة المغرب، أصلي المغرب وأتناول عشائي، وغالباً أتوجه للنوم مبكراً بسبب إحساسي بالتعب والإرهاق الشديدين.
في السنة الثانية لعملي بالمصنع، انتقلت إلي مرحلة جديدة، تتلخص في تقليب المونة والأسمنت بعد أن يتم تحضيرها والحقيقة أن عملية التقليب كانت صعبة ومجهدة للغاية، إذ يجب أن يكون التقليب مستمراً طيلة اليوم حتي لا تجف المونة وأعتقد أن هذا العمل ساعد بشدة في تقوية عضلاتي وإعدادي بدنياً، فهو أقسي من كل تدريبات الكرة التي أمارسها الآن.
وفي السنة الثالثة لعملي، انتقلت لمرحلة متقدمة، فقد أصبحت مسئولاً عن البراويطة. وهي عبارة عن مكان يدخل فيه خليط المونة من الرمل والأسمنت، ليتم تفريغه في قوالب الطوب بشكلها النهائي.
ثم تدرجت حتي وصلت للمرحلة الأخيرة الخاصة بتحضير المونة وعمل الخلطة المكونة من البودرة والرمل والأسمنت.
وبالرغم من أن كل أشقائي عملوا في المصنع، فإن هناك اثنين لم يعملا فيه، هما شقيقي الأكبر أحمد ـ رحمه الله ـ والأصغر محمود، الذي رفض والدي أن يلتحق بهذا العمل لأنه مرهق للغاية.
ولابد أن أعيد التأكيد علي أن فترات الصيف التي اشتغلت فيها بالمصنع كانت بالفعل تمثل إعداداً بدنياً هائلاً لي، وربما يكون المصنع بمثابة جيمانزيوم. بدائي، ساعدني في بناء جسمي الذي أعتقد أنه جيد لأي لاعب أو رياضي بشكل عام.
عودة للأحزان
مثلما ذكرت في بداية هذه الحلقة، فإن بعض الأحداث أكتبها، وبعدها أتذكر تفاصيل جديدة فيها، وينطبق هذا علي وفاة شقيقي أحمد التي تحدثت عنها في الحلقة الماضية، لذلك أستأذنكم أن أتحدث فيها مجدداً لما كان يمثله لي أخي.
كانت الوفاة طبيعية تماماً عام 89، وكان يعمل محاسباً، وأثناء عودته للمنزل تعرض لهبوط مفاجئ في الدورة الدموية ولقي وجه ربه الكريم.
كنت في الصف السادس الابتدائي، وكنت مرتبطاً بأحمد بشكل غير عادي، ليس لأنه كان يدللني، ولكن لأنني كنت أري فيه المثل الأعلي، فهو رجل لم يختلف أحد في القرية علي أخلاقياته، ويبدو أن الله زرع حبه في قلوب الناس، سواء بسبب موهبته الفذة في كرة القدم، أو لشخصه ورجولته وأخلاقياته.
قبل وفاته، كان رحمه الله قد انتهي من تقديم أوراقه للالتحاق بالتجنيد، وبالرغم من أن كل أفراد الأسرة كانوا خائفين عليه ويتمنون أن يحصل علي التأجيل والإعفاء، فإن والدي كان راضياً ويكرر علي مسامعنا عبارة محش بياخد أكتر من نصيبه.، وقبل أن يتحدد له السلاح الذي سيلتحق به توفي.
وبعد أن كبرت بعض الشيء، قالت لي أمي إن والدي أظهر حالة نادرة وجميلة من الإيمان والصبر، حيث أذّن. لصلاة الفجر في المسجد، وحسب الكلام الذي سمعته، فإن صوته في الآذان كان يقطع القلب. وبكي الكثير من أهل القرية تأثراً به فقد كان مليئاً بالشجن والحزن لرحيل نجله الأكبر.
__________________
قصة التعارف علي أم سيف وأحمد
عادة لم أكن أواظب علي الحضور في الكلية، لأنني كنت مرتبطاً بمواعيد تدريبات الترسانة والمنتخب الأوليمبي حتي شاهدت زوجتي وتعرفت عليها وبدأت أشعر بأنها الفتاة التي كنت أحلم بها لما كانت تتمتع به من أخلاقيات طيبة وأدب واحترام غير عادي.
وبالفعل تقدمت لخطبتها وأنا في الفرقة الرابعة وأتممنا بعد ذلك الزواج وأتذكر أن شقيقي أسامة لاحظ حرصي في الفترة التي تعرفت فيها بزوجتي علي الذهاب بشكل منتظم للكلية بحجة حضور المحاضرات، فسألني عن السبب فشرحت له الأمر فساعدني وظل يساندني وطلب مني الاجتهاد لإنهاء مشوار الدراسة لكي أتمكن من التقدم لها والزواج منها.
ولا أنسي أنني يوم الخطوبة كنت أشعر بالخجل الشديد وكانت يداي ترتعدان من الكسوف، لدرجة أنني لم أتمكن من تلبيسها الشبكة بسهولة، بل ظلت يداي ترتعشان لفترة طويلة حتي تمكنت في النهاية من إنجاز المهمة التي كانت ثقيلة للغاية علي قلبي في وقتها
كذبة التوقيع للزمالك
منذ صغري أشعر بوجود حاجز بيني وبين نادي الزمالك حتي عندما كنت ألعب في صفوف الناشئين بالترسانة، لم أكن أتمني الانضمام للزمالك مثل أي لاعب من زملائي في الناشئين بالعكس كنت واضحاً وأعلن رغبتي في اللعب للأهلي دائماً حتي عندما بدأت المفاوضات معي للانضمام للزمالك كان الأمر يمثل عبئاً ثقيلاً علي.
ولم أكن مقتنعاً علي الإطلاق أن بإمكاني ارتداء الفانلة البيضاء رغم أن مفاوضات مسئولي الزمالك كانت أكثر جدية من مفاوضات الأهلي.
وأتذكر أنني حاولت التغلب علي الصراع الذي كنت أعيشه بداخلي من خلال أكذوبة بيضاء التي ادعيتها علي نفسي حيث أبلغت والدي ومن بعده باقي أفراد أسرتي بأنني وقعت للزمالك وحصلت علي مقدم التعاقد حتي أستطيع أن أهيئ لنفسي المناخ الذي يمكنني من الانضمام إليه.
ووقتها وجدت حالة حزن علي وجه والدي وأشقائي لأنهم كانوا يتمنون لي اللعب للأهلي بوصفهم عاشقين لهذا الصرح الكبير مع احترامي الكامل لنادي الزمالك ومسئوليه الذين كانوا محترمين للغاية في مفاوضاتهم معي.
ويومها والدي سألني عن أسباب تعجلي وتوقيعي للزمالك دون أن أنتظر ما ستسفر عنه مفاوضات الأهلي لكنه سرعان ما تراجع بعدما شعر من كلامي بأن الطوبة جت في المعطوبة وأصبح انضمامي للزمالك أمراً واقعا.
بعدها بدأوا يحاولون أن يظهروا لي أنهم تأقلموا علي الوضع لأننا تعودنا منذ الصغر علي أن تكون القرارات نابعة من داخل كل فرد فينا، إلا أنني كنت أشعر بهم، وفي الوقت نفسه أعيش حالة تردد غير عادية لدرجة وصلت أنني فكرت في التجديد للترسانة بدلاً من ارتداء الفانلة البيضاء.
إلا أن ربنا وفقني ومنحني فرصة تحقيق حلم حياتي بعدما زادت جدية مفاوضات الأهلي وتدخل الكابتن طاهر أبوزيد والكابتن محمود الخطيب والمهندس عدلي القيعي ومن قبلهم الحاج محمد عبدالوهاب عضو المجلس وسرعان ما توصلوا لاتفاق مع إدارة الترسانة وحصلوا علي توقيعي.
وأتذكر أنني عندما توجهت بعدها لأبلغ أسرتي بتوقيعي للأهلي لم يصدقونني في البداية وكانوا يعتقدون أنني أحاول تخفيف حزنهم من انضمامي للزمالك، لكن سرعان ما أبدوا سعادتهم البالغة بتوقيعي للأهلي بعد تأكدهم من إنهائي للأمور بشكل حقيقي.
خاصة أن المفاوضات الأهلاوية لم تكن الأولي من نوعها، بل كانت تحدث تقريباً بشكل مكرر مع نهاية كل موسم، لكن ظروف استمرار عقدي مع الترسانة كانت تحول دون إتمام المفاوضات لأتأكد بعدها أن كل تأخيرة وفيها خيرة.
__________________
برنامج اليوم
الحمد لله تربيتي الدينية ساعدتني كثيراً علي الالتزام بنظام يومي أشبه ما يكون بنظام الاحتراف، فأنا أستيقظ في السابعة والنصف صباحاً لكي أذهب للنادي قبل المران الصباحي الذي يقام في التاسعة بوقت مبكر وبعد انتهاء المران أتوجه لتناول وجبة الغداء ثم أصلي صلاة الظهر وأعود بعدها لمنزلي في شارع فيصل لأحصل علي قسط من الراحة وأجلس مع أسرتي لبعض الوقت.
ورغم أن المران المسائي موعده في الساعة السابعة، إلا أنني أحرص علي الوجود قبل صلاة العصر في النادي لأحصل علي فترة لقراءة القرآن ثم أصلي العصر وأخلد للراحة في استراحة النادي لبعض الوقت حتي موعد المران.
بعدها أعود لمنزلي من جديد عقب أدائي لصلاة المغرب لأجلس مع أسرتي بعض الوقت ثم أصلي العشاء وأعود للجلوس مع أبنائي ثم أخلد بعدها للنوم في وقت مبكر أقصاه الساعة العاشرة والنصف مساء لقناعتي بأهمية النوم والراحة للاعب الكرة مثل تدريباته اليومية.
أيام الإجازات لا يختلف فيها برنامجي اليومي عما يحدث في أيام التدريبات باستثناء أنني أتوجه لزيارة منزل والدي وقضاء أوقات طويلة مع الأسرة الكبيرة لأنني أكون مشتاقاً لهم جميعاً بسبب عدم قدرتي علي تكرار الزيارة بشكل دوري بسبب كثرة المعسكرات والسفر الخارجي سواء مع الأهلي أو المنتخب الوطني.